الأربعاء، 21 مارس 2012

*بـين مرارة الفقد ، حلاوة* - قصـة قصيرة

هل هذا واقع ؟ أم أنني أعيش كابوساً مرعباً لا ينتهِ..؟
هكذا ظلت تساؤلاتي ، و تساؤلات إخوتي أو هكذا قرأت من أعينهم ، مازال الناس يبكون ، و أمي تبكي كثيراً ، يحاولون بشفقة ، تهدئتها لكن دون جدوى.
تذكرت أننا كنا في مكانٍ يشبه المستشفى ، ورأيت أبي مغطىً بغطاء أبيض ، تفوح منه رائحة كافور اخترقت أنفي بعنف آلمني حتى البكاء . أذكر أن دموع كثيرة انهمرت من عيني ولم أستطع ايقافها . أحسست بقبضة مؤلمة في قلبي ، أوجعتني ولم أستطع أن أصرخ ثم أحكمت قبضة أخرى ، خنقتني ، منعت الهواء من رئتاي ، تألمت أكثر و سقطت على أثرها شلال آخر من عيني. تيقنت حينها أنني في واقع مر ، فقدت جزءاً مني كـمريض جذام هجره الأمل بالشفاء.
لم أعِ الفقد ، ظننت بأن هدوئي الغريب و دموعي الصامتة هما كل الحزن الذي قد يشعره المرء في مثل هذه المواقف . انتهى العزاء ، و خلا البيت ، واختبئ كل واحدٍ فينا ليبكي وحيداً محتضناً وسادة  حنونة ، خشية أن يهيّج جرح الآخر ، فيبدأ النحيب الجماعي المؤلموجب عليّ حينها أن أحضر لامتحانات الثانوية العامة ، كنت أدرس و أقرأ ، و طبعت دمعتي في معظم الصفحات. قلت في نفسي ، سأدرس و أجدّ لأحقق ما تمناه والدي ،"سأفعل كل ما قد يسعده" ، تمتمتُ ببؤس وسط شلالٍ من الدموع ، كانت محاولة فاشلة  لإزاحة  البؤس لـلتركيز في الدراسة فقط.
الفقد حمل ثقيل جداً، يستنزف صبرنا، قوتنا، فرحنا، صحتنا، حياتنا والأسوأ يستنزف إيجابية أفكارنا. هي تلك المواقف التي تتحرش بذكرياتنا الحلوة و المرة ،تتغير على أثرها أحوالنا فـيغشانا ظل النحيب مميت.
لم تكن والدتي في حداد لوفاة زوجها ، أرواحنا كانت كذلك أيضاً ، لم نعرف كيف نقضي فترة العصرية بعد والدي ، لم نتخيل أن يأتي هذا اليوم ، أن يختفي عماد البيت ، كبير الأسرة ، أساس العائلة ، حتى فترة مرضه ، لم نتخيل أبداً أن نفقد مستشارنا ، صديقنا ، حبيبنا ، أبينا!.
كانت صدمة قاسية، عنيفة، حلت بمكر و بدون مقدمات، طعنتنا عدة طعنات لا مبالية لصرخات الألم التي اقتُلِعت من أفواهنا. الرحيل قاتل ، و الغربة موحشة ، الغربة هي الكلمة التي تناسب حالتي. غريب كان منزلنا ، ينقصه شيء كبير جداً، ليس كبيراً في الحجم بل في الحضور ، شيء كالربيع يزهر المنزل وسط خريف الحزن. آل حالي إلى الإحساس بالنقص الشديد كـلعبة تركيبٍ بأجزاءٍ غير متكاملة ، كأنني أمشي بلا أرجل ، أبصر بلا أعين ، أعيش خاوية. كنت مجرد هيكل خارجي بمحتوى مشين فائق التجويف .
كانت الشهور الأولى ، أصعب شهور في حياتي ، كنت مغتربة في منزلي ، هائمة ، ضعيفة ، مكسورةبحثت عن روح يضيء بها المنزل من جديد ،  عن ضحكات تخترق الجدران فرحاً و تبعث الدفء في نفس كل من يسمعها.  حاولت بجهدٍ جهيد طمس صغائر الذكريات فقط كي لا أغرق في الحزن أكثر مما كنتُ عليهامتلأت باليأس ، والتقمني العجز بشراهة ، فغدت خطواتي تصطدم بجدران شاهقة تمنعني من المضي في درب التكيّـف ، كنت عاجزة عن المحاولة لذا استسلمت قبل بداية المعركة. اختلفت الألوان و الأشياء و المعاني حيث تساوى في ناظري المختلف ، و اختصرت الكون بمفهوم واحد ( كل ما عليها فان)  كل ذرة فانية ، كل شخص فانٍ لا محالة ، عشت سائر أيامي  دون أن أشاطر أي اهتمامٍ لأي شيء كان ، طبقا لذاك المفهوم.
مازالت ظنوني تهمس بأنه راجع، حتى بعد مضي شهرٍ من وفاته، قد يكون هذا كله حلم ، حلم طويل جداً ، سينتهي عندما أفيق و أذهب إلى غرفة والديّ لألقي التحية قبل الذهاب إلى المدرسة .كنت كتلك الطفلة التي أخذت هاتفهااللعبةواتصلت على والدها المتوفى لتعاتبه على سفره المفاجئ، عاتبه كثيراً لأن طال سفره و حنّت لأن يكون معها كل صباح ينتظر معها حافلة المدرسة ، مثل كل بنات الحيّ. تساقطت دموعها و هي تسأل لماذا هذا السفر يا أبي ، أما آن لك أن ترجع؟
كنت في حلم، مجرد خيال لا أكثر، مازالت رائحة دهن العود تفوح من الأريكة، و مازال الفطور على الطاولة في الساعة التاسعة صباحاً ، أنا أحلم ،كان والدي بخير ، مجرد انتكاسة لا أكثر ، كبوة جواد ويعود كما كان ، كما كنا. هكذا فكرت لأيام أو بصحيح العبارة، هكذا تمنيت أن تكون الحكاية، لكن دموع من هم حولي بالإضافة إلى دموعي، أقنعتي بأن الواقع مر و رجوعه أمنية غير محققة.
كثرت تلك المواقف التي تبعثر روحنا إلى أشلاءٍ كلها أسى ، كـتلك المرة التي كنت أنادي إخوتي لتناول الغداء ، مضيت لاشعوريا نحو المجلس ، وقفت أمام الباب فتذكرت بأنه غير موجود ، الكرسي الخالي من روحه النقيّة صدمني بالذكرى، تمالكت نفسي بعد جهد عنيف ، و عدت أدراجي بابتسامة مزيفة مخافة أن أهيج أحزان أفراد العائلة.

قصرت الجُمل فأصبحت مجرد كلمات متتابعة ، هجرنا الحوارات الطويلة ، العادات اليومية ؛ بداية صراع مع الحزن لـينتهي بانهزامنا التام للبكاء و احتضان صورته والدعاء له مع كل شهقة مؤلمة. نتلاقى كثيراً في الزوايا الموحشة ليلاً ، خاصة في المجلس حيث أريكة والدي المفضلة. نجلس فيها لنحتضن المخدات الصغيرة و نستنشق أكبر قدرٍ من رائحة والدي ، فـتدخل روحنا ليبرد لهيب الوجعتتابعت الكوابيس التي تخلله حزني الشديد بفقدان روحي ، صرخت كثيراً ، ثم بكيت أكثر وأكثر. بكيت ليس من أجل الفقد ، أو النقص المؤلم الذي أحسست به ، بل من حزني المشين لحالتي التي لن يعجب والدي، هذا الهوان الذي أبعدني عن كل ما هو جميل ، ملون، ومشرق. نعم حزينة ، لكن ما جدوى الدموع؟ لن يسعده دمعات في الليل ، و دمعات على صورة ، و دمعات على هدية و دمعات من غشاء الحداد الذي أفترضته على روحي.
رافقت كتاب الله كثيراً وتضرعت بالدعاء له كل ليلة ، كونت غطاءً إيمانياً و اعتنقت روحي السكينة. تعلمت الصبر من قصص القرآن ، رافقت صديقة دربي لتخفف عنّي و تنتشل مني البؤس ، هدأت لأزاول حياتي من جديد. تحولت كوابيسي إلى رؤى ، رأيت أبي كثيراً ، رأيته باسماً ، بشوشاً ، يلبس لباساً شديد البياض. رأيته يدعمني في دراستي، و رأيتُني أدرس بهمة و جهد لم أشعر به من قبل. أحسست بقوة كبيرة، قوة تجعلني أحصل على كل  ما تقع عليه عيناي، أحسست بأنني أستطيع أن أُسعدَ والدي حتى و إن غاب جسدياً ، أحسست بأنه سيفتخر بإنجازاتي لذا حرصت على السير بحذوه ، و العمل على نحت اسمه على سطح القمر ، حرصت أن أحقق ما رآه فيني، أحقق ذاتي التي تمنّاها أبي . تخرجت من الثانوية العامة بتقديرٍ جيد ، دخلت الجامعة التي أرادها والدي و تخصصت في المجال الذي وثق بأنني سأنجح فيه و توظفت في الشركة التي أرادني أن أتوظف فيها ، و أحببت الكيان الذي آلتُ إليه.

لازالت روحه معي تساندني في كل خطوة وحتماً ساندتني في هذا النزف ، ولازلت ألطخ لحظاتي بـدموع الفقد ، لكن أهديك يا أبي كل فرح ونجاح يهل عليّ، لك كل انتصاراتي يا أكبر دعم عرفته في حياتي كلها.



فاطمـة



هناك 6 تعليقات:

  1. اولاً:
    غفر الله والدك وغفر لاموات المسلمين جميعاً
    وهذا الدرب كلنا سنسير عليه ونتمنى السلامه
    وحسن الخاتمه .. إنا لله وإنا إليه راجعون .

    ثانياً:
    للبوح روح ..
    تستمدها من انهار قلمك العذب ..

    فاطمه ..
    هنا تألقتِ بروحانيه طاهره بريئه ..
    ليس لها مثيل ..


    احتراماتي لطرحك ؛)

    ردحذف
  2. آمين يا رب العالميـن

    "

    يـوسف

    ممتنة لكرم ثناءك ، أخجلت تواضعي
    أسعدك البارئ في الدارين ، و أبعد عن قلبك كل حزن

    شكراً لمرورك

    ردحذف
  3. مفرداتك راائعة وتشبيهاتك لها تصوير بليغ

    ابدعتي في احساسك بالكتابه . .


    ^^

    ردحذف
  4. تشرفت بكم ، وأسعدتني قرآءتكم

    أسعدكم الله في الدارين

    :)

    ردحذف
  5. الله يرحم أبوك ..ويرحم أبوي وموتى المسلمين ..وربي اقرى قصتك ودموعي على خدي..شعور الفقد واحد عشت احساسك في كل كلمه قلتيها ..الله يطول بعمر امك ..ويحفظك يارب ..تقبلي مروري أختك حنان

    ردحذف
  6. حنان

    اللهم تغمد بأرواح أمواتنا الجنان ، و اجمعنا بهم في الفردوس الأعلى

    عذراً لتلك الدموع ، أشكرك كثيراً لإعطاء حياتي جزءاً من وقتك الثمين

    أسعد الله قلبك و أبعد عنك كل هم وحزن .

    محبتي

    ردحذف