هل هذا واقع ؟ أم أنني أعيش كابوساً مرعباً لا ينتهِ..؟
هكذا
ظلت
تساؤلاتي
،
و
تساؤلات
إخوتي
أو
هكذا
قرأت
من
أعينهم
،
مازال
الناس
يبكون
،
و
أمي
تبكي
كثيراً
،
يحاولون
بشفقة
،
تهدئتها
لكن
دون
جدوى.
تذكرت
أننا
كنا
في
مكانٍ
يشبه
المستشفى
،
ورأيت
أبي
مغطىً
بغطاء
أبيض
،
تفوح
منه
رائحة
كافور
اخترقت
أنفي
بعنف
آلمني
حتى
البكاء . أذكر
أن
دموع
كثيرة
انهمرت
من
عيني
ولم
أستطع
ايقافها . أحسست
بقبضة
مؤلمة
في
قلبي
،
أوجعتني
ولم
أستطع
أن
أصرخ
ثم
أحكمت
قبضة
أخرى
،
خنقتني
،
منعت
الهواء
من
رئتاي
،
تألمت
أكثر
و
سقطت
على
أثرها
شلال
آخر
من
عيني. تيقنت
حينها
أنني
في
واقع
مر
،
فقدت
جزءاً
مني
كـمريض
جذام
هجره
الأمل
بالشفاء.
لم
أعِ
الفقد
،
ظننت
بأن
هدوئي
الغريب
و
دموعي
الصامتة
هما
كل
الحزن
الذي
قد
يشعره
المرء
في
مثل
هذه
المواقف . انتهى
العزاء
،
و
خلا
البيت
،
واختبئ
كل
واحدٍ
فينا
ليبكي
وحيداً
محتضناً
وسادة حنونة ، خشية
أن
يهيّج
جرح
الآخر
،
فيبدأ
النحيب
الجماعي
المؤلم. وجب
عليّ
حينها
أن
أحضر
لامتحانات
الثانوية
العامة
،
كنت
أدرس
و
أقرأ
،
و
طبعت
دمعتي
في
معظم
الصفحات. قلت
في
نفسي
،
سأدرس
و
أجدّ
لأحقق
ما
تمناه
والدي
،"سأفعل
كل
ما
قد
يسعده" ،
تمتمتُ
ببؤس
وسط
شلالٍ
من
الدموع
،
كانت
محاولة
فاشلة لإزاحة البؤس
لـلتركيز
في
الدراسة
فقط.
الفقد
حمل
ثقيل
جداً،
يستنزف
صبرنا،
قوتنا،
فرحنا،
صحتنا،
حياتنا
والأسوأ
يستنزف
إيجابية
أفكارنا. هي
تلك
المواقف
التي
تتحرش
بذكرياتنا
الحلوة
و
المرة
،تتغير
على
أثرها
أحوالنا
فـيغشانا
ظل
النحيب
مميت.
لم
تكن
والدتي
في
حداد
لوفاة
زوجها
،
أرواحنا
كانت
كذلك
أيضاً
،
لم
نعرف
كيف
نقضي
فترة
العصرية
بعد
والدي
،
لم
نتخيل
أن
يأتي
هذا
اليوم
،
أن
يختفي
عماد
البيت
،
كبير
الأسرة
،
أساس
العائلة
،
حتى
فترة
مرضه
،
لم
نتخيل
أبداً
أن
نفقد
مستشارنا
،
صديقنا
،
حبيبنا
،
أبينا!.
كانت صدمة قاسية، عنيفة، حلت بمكر و بدون مقدمات، طعنتنا عدة طعنات لا مبالية لصرخات الألم التي اقتُلِعت من أفواهنا. الرحيل قاتل ، و الغربة موحشة ، الغربة هي الكلمة التي تناسب حالتي. غريب كان منزلنا ، ينقصه شيء كبير جداً، ليس كبيراً في الحجم بل في الحضور ، شيء كالربيع يزهر المنزل وسط خريف الحزن. آل حالي إلى الإحساس بالنقص الشديد كـلعبة تركيبٍ بأجزاءٍ غير متكاملة ، كأنني أمشي بلا أرجل ، أبصر بلا أعين ، أعيش خاوية. كنت مجرد هيكل خارجي بمحتوى مشين فائق التجويف .
كانت
الشهور
الأولى
،
أصعب
شهور
في
حياتي
،
كنت
مغتربة
في
منزلي
،
هائمة
،
ضعيفة
،
مكسورة. بحثت
عن
روح
يضيء
بها
المنزل
من
جديد
، عن ضحكات
تخترق
الجدران
فرحاً
و
تبعث
الدفء
في
نفس
كل
من
يسمعها. حاولت
بجهدٍ
جهيد
طمس
صغائر
الذكريات
فقط
كي
لا
أغرق
في
الحزن
أكثر
مما
كنتُ
عليه. امتلأت
باليأس
،
والتقمني
العجز
بشراهة
،
فغدت
خطواتي
تصطدم
بجدران
شاهقة
تمنعني
من
المضي
في
درب
التكيّـف
،
كنت
عاجزة
عن
المحاولة
لذا
استسلمت
قبل
بداية
المعركة. اختلفت
الألوان
و
الأشياء
و
المعاني
حيث
تساوى
في
ناظري
المختلف
،
و
اختصرت
الكون
بمفهوم
واحد
(
كل
ما
عليها
فان) كل ذرة
فانية
،
كل
شخص
فانٍ
لا محالة
،
عشت
سائر
أيامي دون
أن
أشاطر
أي
اهتمامٍ
لأي
شيء
كان
،
طبقا
لذاك
المفهوم.
مازالت
ظنوني
تهمس
بأنه
راجع،
حتى
بعد
مضي
شهرٍ
من
وفاته،
قد
يكون
هذا
كله
حلم
،
حلم
طويل
جداً
،
سينتهي
عندما
أفيق
و
أذهب
إلى
غرفة
والديّ
لألقي
التحية
قبل
الذهاب
إلى
المدرسة .كنت
كتلك
الطفلة
التي
أخذت
هاتفها –اللعبة- واتصلت
على
والدها
المتوفى
لتعاتبه
على
سفره
المفاجئ،
عاتبه
كثيراً
لأن
طال
سفره
و
حنّت
لأن
يكون
معها
كل
صباح
ينتظر
معها
حافلة
المدرسة
،
مثل
كل
بنات
الحيّ. تساقطت
دموعها
و
هي
تسأل
لماذا
هذا
السفر
يا
أبي
،
أما
آن
لك
أن
ترجع؟
كنت
في
حلم،
مجرد
خيال
لا
أكثر،
مازالت
رائحة
دهن
العود
تفوح
من
الأريكة،
و
مازال
الفطور
على
الطاولة
في
الساعة
التاسعة
صباحاً
،
أنا
أحلم
،كان
والدي
بخير
،
مجرد
انتكاسة
لا
أكثر
،
كبوة
جواد
ويعود
كما
كان
،
كما
كنا. هكذا
فكرت
لأيام
أو
بصحيح
العبارة،
هكذا تمنيت أن تكون الحكاية، لكن دموع من هم حولي بالإضافة إلى دموعي، أقنعتي بأن الواقع مر و رجوعه أمنية غير محققة.
كثرت تلك المواقف التي تبعثر روحنا إلى أشلاءٍ كلها أسى ، كـتلك المرة التي كنت أنادي إخوتي لتناول الغداء ، مضيت لاشعوريا نحو المجلس ، وقفت أمام الباب فتذكرت بأنه غير موجود ، الكرسي الخالي من روحه النقيّة صدمني بالذكرى، تمالكت نفسي بعد جهد عنيف ، و عدت أدراجي بابتسامة مزيفة مخافة أن أهيج أحزان أفراد العائلة.
قصرت
الجُمل
فأصبحت
مجرد
كلمات
متتابعة
،
هجرنا
الحوارات
الطويلة
،
العادات
اليومية
؛
بداية
صراع
مع
الحزن
لـينتهي
بانهزامنا
التام
للبكاء
و
احتضان
صورته
والدعاء
له
مع
كل
شهقة
مؤلمة. نتلاقى
كثيراً
في
الزوايا
الموحشة
ليلاً
،
خاصة
في
المجلس
حيث
أريكة
والدي
المفضلة. نجلس
فيها
لنحتضن
المخدات
الصغيرة
و
نستنشق
أكبر
قدرٍ
من
رائحة
والدي
،
فـتدخل
روحنا
ليبرد
لهيب
الوجع. تتابعت
الكوابيس
التي
تخلله
حزني
الشديد
بفقدان
روحي
،
صرخت
كثيراً
،
ثم
بكيت
أكثر
وأكثر. بكيت
ليس
من
أجل
الفقد
،
أو
النقص
المؤلم
الذي
أحسست
به
،
بل
من
حزني
المشين
لحالتي
التي
لن
يعجب
والدي،
هذا
الهوان
الذي
أبعدني
عن
كل
ما
هو
جميل
،
ملون،
ومشرق. نعم
حزينة
،
لكن
ما
جدوى
الدموع؟
لن
يسعده
دمعات
في
الليل
،
و
دمعات
على
صورة
،
و
دمعات
على
هدية
و
دمعات
من
غشاء
الحداد
الذي
أفترضته
على
روحي.
رافقت كتاب الله كثيراً وتضرعت بالدعاء له كل ليلة ، كونت غطاءً إيمانياً و اعتنقت روحي السكينة. تعلمت الصبر من قصص القرآن ، رافقت صديقة دربي لتخفف عنّي و تنتشل مني البؤس ، هدأت لأزاول حياتي من جديد. تحولت كوابيسي إلى رؤى ، رأيت أبي كثيراً ، رأيته باسماً ، بشوشاً ، يلبس لباساً شديد البياض. رأيته يدعمني في دراستي، و رأيتُني أدرس بهمة و جهد لم أشعر به من قبل. أحسست بقوة كبيرة، قوة تجعلني أحصل على كل ما
تقع
عليه
عيناي،
أحسست
بأنني
أستطيع
أن
أُسعدَ
والدي
حتى
و
إن
غاب
جسدياً
،
أحسست
بأنه
سيفتخر
بإنجازاتي
لذا
حرصت
على
السير
بحذوه
،
و
العمل
على
نحت
اسمه
على
سطح
القمر
،
حرصت
أن
أحقق
ما
رآه
فيني،
أحقق
ذاتي
التي
تمنّاها
أبي . تخرجت
من
الثانوية
العامة
بتقديرٍ
جيد
،
دخلت
الجامعة
التي
أرادها
والدي
و
تخصصت
في
المجال
الذي
وثق
بأنني
سأنجح
فيه
و
توظفت
في
الشركة
التي
أرادني
أن
أتوظف
فيها
،
و
أحببت
الكيان
الذي
آلتُ
إليه.
لازالت روحه معي تساندني في كل خطوة وحتماً ساندتني في هذا النزف ، ولازلت ألطخ لحظاتي بـدموع الفقد ، لكن أهديك يا أبي كل فرح ونجاح يهل عليّ، لك كل انتصاراتي يا أكبر دعم عرفته في حياتي كلها.
فاطمـة